سوريا- العقلانية الواقعية تنقذها بعد الحرب الأهلية؟
المؤلف: بشرى فيصل السباعي10.08.2025

لم يكن أحد ليتخيل أن تنتهي فصول الحرب الأهلية السورية بتلك السرعة، وأن تعود الحياة إلى طبيعتها بعد استيلاء فصيل إسلامي على السلطة، وهو الأمر الذي قوبل باستحسان دولي تجسد في إيفاد المبعوثين للقاء القيادة الجديدة. السر يكمن في النهج العقلاني والواقعي الذي تبناه الحكام الجدد، والذي يتنافى مع السلوك النمطي للجماعات الإسلامية التي غالبًا ما تتجاهل الحسابات العقلانية وتدخل في صراعات مستمرة مع الجميع، مما يضر بها وبغيرها. إن جوهر أزمة التيارات الإسلامية مع المجتمعات يكمن في افتقارها إلى هذا المنطق العملي، حتى بات هذا النقص مرادفًا للخطاب الديني نفسه، مما أدى إلى نفور حتى المسلمين، الذين يرون فيه عجزًا عن تقديم حلول واقعية وعقلانية، وانحصارًا في جدالات نظرية تاريخية وواقع افتراضي تجاوزه الزمن.
حتى الفتاوى تعتمد على ظروف الماضي ولا تراعي الواقع المعاصر المتغير جذريًا. لو سلك الحكام الجدد في سوريا مسلك الجماعات الإسلامية المعتاد، والذي يتسم بتكفير الآخرين وقتالهم، لاستمرت الحرب الأهلية رغم سقوط نظام بشار، ولانتشرت الفوضى والعمليات الإرهابية. ولو لجأوا إلى فرض مظاهر التدين بالإكراه، لكانوا واجهوا مقاومة شعبية عارمة، خاصة في بلد متعدد الطوائف كسوريا، غير معتاد على النموذج الأصولي المتشدد.
ولعل أبرز مثال على العقلانية الواقعية هو موقفهم من المرأة. ففي حين أن الجماعات الإسلامية عادة ما تجرد النساء من حقوقهن الأساسية وتحبسهن في المنازل وتمنعهن من التعليم والعمل، كما هو الحال في أفغانستان والمناطق القبلية في باكستان، فقد تعهد الحكام الجدد في سوريا بعدم تطبيق نموذج طالبان. هذا التوجه، الذي يخالف أدبيات الجماعات الإسلامية التقليدية، كان حاسمًا في كسب قبول المجتمع الدولي؛ فالإجحاف بحقوق المرأة يعد من أهم أسباب العزلة الدولية، كما نشهد في أفغانستان، حيث علقت العديد من المنظمات الدولية أنشطتها الإغاثية احتجاجًا على قوانين طالبان المجحفة.
ومن مظاهر هذا النهج العقلاني أيضًا عدم الانتقام الطائفي، والاقتصار على ملاحقة المتورطين في جرائم ضد الأبرياء. كذلك، تجنبوا المساس بالمقدسات الدينية للطوائف الأخرى، بل وقاموا بحمايتها. وقد ألقت السلطات القبض على أفراد من داعش كانوا يخططون لشن هجمات إرهابية ضد هذه المقدسات، علمًا بأن حماية هذه المقدسات كانت الذريعة التي استخدمت لتجنيد مقاتلين من أفغانستان وباكستان وإيران ولبنان، والذين ارتكبوا جرائم طائفية بحق الشعب السوري قبل أن ينسحبوا قبيل سقوط النظام، رغم حصول العديد منهم على الجنسية السورية.
ومن مظاهر العقلانية الواقعية أيضًا عدم ملاحقة مؤيدي نظام بشار الذين لم يرتكبوا جرائم ضد الأبرياء، وبذلك تجنبوا ويلات ما يسمى بـ "العدالة الثورية"، والتي غالبًا ما تؤدي إلى محاكم تفتيش تعاقب كل من أيد النظام السابق. ففي الثورة الفرنسية، التي تعتبر مثالًا للثورة على الظلم، أطلق الثوار على الفترة التي تلت الثورة اسم "عهد الإرهاب"، بسبب إرهابهم لكل من لم يكن مؤيدًا لهم وإعدامهم بالمقصلة.
وأخيرًا، من أبرز مظاهر هذا الاتجاه العقلاني الحفاظ على مؤسسات الدولة وعدم تفكيكها بحجة ولائها للنظام السابق، والاقتصار على دمج الثوار في الجيش، وتعيين الكفاءات في أماكنها. إن هذه الأمثلة للعقلانية الواقعية التي أظهرها الحكام الجدد في سوريا هي بمثابة درس قيم لجميع الجماعات والحركات والتيارات الإسلامية.